فصل: تنبيه (على أن المتقربين إلى الله بالصفير والتصفيق والمخلطين به على أهل الصلاة والذكر والقراءة أشباه هؤلاء المشركين):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القاسمي:

{وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء}
أي: تصفيرًا: {وَتَصْدِيَةً} أي: تصفيقًا بالأكف.
روى ابن أبي حاتم أن ابن عَمْرو رضي الله عنهما حكى فعلهم، فصفر، وأمال خده، وصفق بيديه.
وعن ابن عمر أيضًا قال: إنهم كانوا يضعون خدودهم على الأرض ويصفرون ويصفقون.
وقد روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة، يصفرون ويصفقون.
وعن مجاهد أنهم كانوا يصنعون ذلك ليخلطوا على النبي صلى الله عليه وسلم صلاته.
وقال الزهري: يستهزئون بالمؤمنين.
وهذا الجملة إما معطوفة على: {وَهُمْ يَصُدُّونَ}، فيكون لتقرير استحقاقهم للعذاب، أو على قوله: {وَمَا كاَنُوا أوْليِاءَهُ}، فيكون تقريرًا لعدم استحقاقهم لولايته.
قال الزمخشري: فإن قلت: ما وجه هذا الكلام؟ قلت: هو نحو من قوله- أي: الفرزدق-:
وما كنت أخشى أن يكون عطاؤه ** أَدَاهِمَ سودًا أو مُحدرجةً سُمْرا

والمعنى أنه وضع القيود والسياط موضع العطاء، ووضعوا المكاء والتصدية موضع الصلاة.
وذلك أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة، الرجال والنساء، وهم مشبكون بين أصابعهم، يصفرون فيها ويصفقون.
وكانوا يفعلون ذلك إذا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته، ويخلطون عليه.
ما كنت أخشى، أي: ما كنت أعلم. وأداهم: جمع أدهم، وهو الأسود من الحيات. والعرب تذكر الأدهم، وتريد به القيد، كما في قصة القبعثري.
والمحدرجة: السياط. انتهى.
{فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} أي: اعتقادًا وعملًا، وفيه إشعار بأن هذا الفعل المبطل لحرمة البيت، كفر، للإستهانة بشعائره تعالى والسخرية بها.
والعذاب المذكور هو ما أصابهم يوم بدر من القتل والسبي، كما قاله غير واحد من السلف واختاره ابن جرير.

.تنبيه [على أن المتقربين إلى الله بالصفير والتصفيق والمخلطين به على أهل الصلاة والذكر والقراءة أشباه هؤلاء المشركين]:

قال ابن القيم في إغاثة اللهفان: المتقربون إلى الله بالصفير والتصفيق، والمخلطون به على أهل الصلاة والذكر والقراءة، أشباه هؤلاء المشركين، قال ابن عرفة وابن الأنباري: المكاء والتصدية ليسا بصلاة، ولكن الله تعالى أخبر أنهم جعلوا مكان الصلاة التي أمروا بها، المكاء والتصدية، فألزمهم ذلك عظيم الأوزار. وهذا كقولك: زرته فجعل جفائي صلتي، أي: أقام الجفاء مقام الصلة.
والمقصود أن المصفقين والصفارين في يراع أو مزمار ونحوه، فيهم شبه من هؤلاء، ولو أنه مجرد الشبه الظاهر، فلهم قسط من الذم، بحسب تشبههم بهم، وإن لم يتشبهوا بهم في جميع مكائهم وتصديتهم، والله سبحانه لم يشرع التصفيق للرجال وقت الحاجة إليه في الصلاة إذا نابهم أمر، بل أمروا بالعدول عنه إلى التسبيح، لئلا يتشبهوا بالنساء، فكيف إذا فعلوه، لا لحاجة، وقرنوا به أنواعًا من المعاصي قولًا وفعلًا. انتهى.
وقال قبله: ومن مكائد عدو الله ومصاديه التي كاد بها من قل نصيبه من العلم والعقل والدين، وصاد بها قلوب الجاهلين والمبطلين، سماع المكاء والتصدية، والغناء بالآلات المحرمة الذي يصد القلوب عن القرآن، ويجعلها عاكفة على الفسوق والعصيان.
وقال شيخه تقي الدين بن تيمية رحمه الله تعالى، في بعض فتاويه: وأما اتخاذ التصفيق والغناء والضرب بالدفوف والنفخ بالشبابات والإجتماع على ذلك، دينًا وطريقًا إلى الله وقربة، فهذا ليس من دين الإسلام، وليس مما شرعه لهم نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، ولا أحد من خلفائه، ولا استحسن ذلك أحد من أئمة المسلمين، بل ولم يكن أحد من أهل الدين يفعل ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عهد أصحابه، ولا تابعيهم بإحسان، ولا تابعي التابعين، بل لم يكن أحد من أهل الدين من الأعصار الثلاثة، لا بالحجاز ولا بالشام ولا باليمن ولا العراق ولا بخراسان ولا المغرب ولا مصر يجتمع على مثل هذا السماع، وإنما ابتدع في الإسلام بعد القرون الثلاثة، ولهذا قال الشافعي- لما رأى ذلك-: خلفت ببغداد شيئًا أحدثته الزنادقة يسمونه التغبير، يصدون به الناس عن القرآن، وسئل عنه أحمد فقال: أكرهه، هو محدث. قيل، أتجلس معهم؟ قال: لا! وكذلك كرهه سائر أئمة الدين، وأكابر الشيوخ الصالحين لم يحضروه، فلم يحضره مثل إبراهيم بن أدهم، ولا الفضيل بن عياض، ولا معروف الكرخي، ولا أبو سليمان الداراني ولا أحمد بن أبي الحواري، ولا السري السقطي، وأمثالهم.
والذين حضروه من الشيوخ من المحمودين، تركوه في آخر أمرهم، وأعيان المشايخ عابوا أهله، كما ذكر ذلك الشيخ عبد القادر، والشيخ أبو البيان وغيرهما من الشيوخ، وما ذكره الإمام الشافعي رضي الله عنهم أنه من إحداث الزنادقة، من كلام إمام خبير بأصول الإسلام، فإن هذا السماع لم يرغب فيه، ويدعو إليه في الأصل، إلا من هو متهم بالزندقة، كابن الزاونديّ والفارابيّ وابن سينا وأمثالهم.
ثم قال رحمه الله: نعم! قد حضره أقوام من أهل الإرادة والمحبة، ومن لم نصيب في المحبة، لما فيه من التحريك لهم، ولم يعلموا غائلته، ولا عرفوا مغبته، كما دخل قوم من الفقهاء في أنواع من كلام الفلاسفة المخالف لدين الإسلام ظنًا منهم أنه حق موافق، ولم يعلموا غائلته، ولا عرفوا مغبته، فإن القيام بحقائق الدين علمًا وقولًا وعملًا وذوقًا وخبرة لا يستقل به أكثر الناس، ولكن الدليل الجامع هو الإعتصام بالكتاب والسنة.
ثم قال رحمه الله: ومن كان له خبرة بحقائق الدين، وأحوال القلوب، ومعارفها وأذواقها، عرف أن سماع المكاء والتصدية لا يجلب للقلب منفعة ولا مصلحة، إلا وفي ضمن ذلك من المفسدة ما هو أعظم منه، فهو للروح كالخمر للجسد، يفعل في النفوس، أعظم ما تفعله حميًا الكئوس. ثم قال: وبالجملة فعلى المؤمن أن يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يترك شيئًا يقرب إلى الجنة، إلا وقد حدث به، ولا شيئًا يبعد عن النار، وإلا وقد حدث به، وإن هذا السماع، لو كان مصلحة، لشرعه الله ورسوله، فإن الله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} الآية.
وإذا وجد السامع به منفعة لقلبه، ولم يجد شاهد ذلك من كتاب الله ولا من سنة رسوله، لم يلتفت إليه. كما أن الفقيه إذا رأى قياسًا لا يشهد له الكتاب والسنة، لم يلتفت إليه انتهى.
وقد سلف لنا شيء من هذا البحث عند قوله تعالى: {فَاذْكُرُوِني أَذْكُرْكُمْ} فليراجع. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً}
معطوفة على جملة {وهم يصدون عن المسجد الحرام} [الأنفال: 34] فمضمونها سبب ثان لاستحقاقهم العذاب، وموقعها، عقب جملة: {وما كانوا أولياءه} [الأنفال: 34] يجعلها كالدليل المقرر لانتفاء ولايتهم للمسجد الحرام، لأن من كان يفعل مثل هذا عند مَسجد الله لم يكن من المتقين، فكان حقيقًا بسلب ولاية المسجد عنه، فعطفت الجملة باعتبارها سببًا للعذاب، ولو فصلت باعتبارها مقررة لسلب أهلية الولاية عنهم لصحَ ذلك، ولكن كان الاعتبار الأول أرجح؛ لأن العطف أدل عليه مع كون موقعها يفيد الاعتبار الثاني.
والمُكاء على صيغة مصادر الأصوات كالرغاء والثغاء والبُكاء والنواح، يقال: مكَا يمْكُو إذا صَفّر بفيه، ومنه سمي نوع من الطْير المَكّاء بفتح الميم وتشديد الكاف، وجمعه مَكَاكِيء بهمزة في آخره بعد الياء، وهو طائر أبيضُ يكون بالحجاز.
وعن الأصمعي قلت لمنتجع بن نبهان ما تَمكُوفشبك بين أصابعه ثم وضعها على فمه ونفخ.
والتصدية التصفيق مشتقًا من الصدى وهو الصوت الذي يرده الهواء محاكيًا لصوت صالح في البراح من جهة مقابلة.
ولا تعرف للمشركين صلاة، فتسمية مكائهم وتصديتهم صلاة مشاكلة تقديرية؛ لأنهم لما صدوا المسلمين عن الصلاة وقراءة القرآن في المسجد الحرام عند البيت.
كان من جملة طرائق صدهم إياهم تشغيبهم عليهم وسخريتهم بهم يحاكون قراءة المسلمين وصلاتهم بالمُكاء والتصدية، قال مجاهد: فَعَل ذلك نفر من بني عبد الدار يخلطون على محمد صلاته وبنو عبد الدار هم سدنة الكعبة وأهل عمارة المسجد الحرام فلما فعلوا ذلك للاستسخار من الصلاة سمي فعلهم ذلك صلاة على طريقة المشاكلة التقديرية، والمشاكلة ترجع إلى استعارة علاقتها المشاكلة اللفظية أو التقديرية فلم تكن للمشركين صلاة بالمكاء والتصدية، وهذا الذي نحاه حذاق المفسرين: مجاهد، وابن جبير، وقتادة، ويؤيد هذا قوله: {فذُوقوا العذاب بما كنتم تكفُرون} [الأحقاف: 34] لأن شأن التفريع أن يكون جزاء على العمل المحكي قبله، والمكاء والتصدية لا يعدان كفرًا إلاّ إذا كانا صادرين للسخرية بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالدين، وأما لو أريد مجرد لهو عملوه في المسجد الحرام فليس بمقتض كونَه كفرًا إلاّ على تأويله بأثر من آثار الكفر كقوله تعالى: {إنما النسيء زيادة في الكفر} [التوبة: 37].
ومن المفسرين من ذكر أن المشركين كانوا يطوفون بالبيت عراة ويمكّون ويصفقون روي عن ابن عباس كانت قريش يطوفون بالبيت عراة يصفقون ويصغرون، وعليه فإطلاق الصلاة على المكاء والتصدية مجاز مرسل، قال طلحة بن عمرو: أراني سعيد بن جبير المكان الذي كانوا يمكّون فيه نحو أبي قبيس، فإذا صح الذي قاله طلحة بن عمرو فالعندية في قوله: {عند البيت} بمعنى مطلق المقاربة وليست على حقيقة ما يفيده (عند) من شدة القرب.
ودل قوله: {فذوقوا العذاب} على عذاب وَاقع بهم، إذ الأمر هنا للتوبيخ والتغليظ وذلك هو العذاب الذي حل بهم يوم بدر، من قتل وأسر وحَرَب (بفتح الراء).
{بما كنتم تكفرون} أي بكفركم ف (ما) مصدرية، و{كان} إذا جعل خبرها جملة مضارعية أفادت الاستمرار والعادة، كقول عايشة، فكانوا لا يقطعون السارق في الشيء التافه وقول سعيد بن المسيب في الموطأ: كانوا يعطون النفَل من الخُمس.
وعبر هنا بـ {تكفرون} وفي سورة [الأعراف: 39] بـ {تكسبون} لأن العذاب المتحدث عنه هنال لأجل الكُفر.
والمتحدث عنه في الأعراف لأجل الكفر والإضلال ومَا يجره الإضلال من الكبرياء الروئاسة. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً}
حيث كانت صلاتهم مظهرا من مظاهر اللهو واللعب يؤدونها بالمكاء والتصدية، والمكاء هو التصفير الذي يصفرونه، والتصدية هي التصفيق، وكانت صلواتهم هي صفير يسبب صدى للآذان، بالإضافة إلى التصفيق بإيقاع معين، فكيف تكون الصلاة هكذا؟. وكيف يصدون عن البيت الحرام ولا ولاية لهم عليه؛ لأن الذي يلي أمر البيت الحرام لابد أن يكون متقيًا لله، لكن هؤلاء لم يكونوا أهلًا للتقوى؛ لأنهم لم يقوموا بالصلاة المطلوبة للبيت الحرام والتي يجب أن يذكر فيها الله ويُعبد؛ لذلك كان التعذيب لمن أصر على ذلك بعد أن نزل منهج الله الخاتم على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. اهـ.